من البديهي أن يطرح الإنسان الأسئلة , ولكل إنسان حظه منها , صحيح أننا نختلف في نوعية الأسئلة فيما بيننا , لكن هناك فئة من البشر تشقى , وتشقي من حولها في البحث عن أجوبة لتلك الأسئلة , وفئة أخرى تنسى أسئلتها في معمعة الأفكار , و رتابة الأيام , و فئة تظن أنّ أسئلتها ليست بالأهمية بمكان حتى تحاول أن تجيبها .
والأكيد أن أسئلتك مهما ظننت و ضننت بها , هي من ستصنع منك في يوم من الأيام شخصك الذي تتمنى أن تكون , فقط أعرها بعض الاهتمام مهما صغرت وسخفت , وستجد أنك فعلاً أهملت الكثير قبلاً .
من هذا المنطلق سألت نفسي يوماً : لماذا نكتب ؟!
السؤال كلمتان فقط , لكن الإجابة التي حضرت نفسي لها كانت أكثر من ذلك بكثير .
لماذا نكتب ؟ .
- لأننا نحب الكتابة ؟ , إذاً لماذا نحب الكتابة ؟ , لا لا هذه ليست إجابة .
- نكتب لأننا لا نستطيع أن نستوعب كل شيء دفعة واحدة , فلذلك نحن نقسّم الوجبة الفكرية إلى أقسام متعددة نلتهمها على تدريج لكي نستوعبها خير استيعاب .
- أم أننا نكتب لأننا لدينا ذاكرة انتقائية تأخذ ما تريد وتنسى ماتريد , فوجب أن نحتفظ بالأشياء التي نريدها نحن ولا تريدها ذاكرتنا معنا كي نحميها من تسلط الذاكرة , ثُمّ كيف لنا أن نعرف أننا أكثر خوفاً على أنفسنا من ذاكرتنا ؟ .
- ربما نكتب لأننا نقرأ , وعندما نقرأ نعرف , والمعرفة تحتاج إلى أداة نقل , إذاً نحن نكتب لكي ننقل معارفنا للآخرين , فالإنسان مخلوق يحمل رسالة أولاً وآخراً , ومن شروط نقل الرسالة أن يكون هناك أداة نقل والكتابة من أهم تلك الأدوات .
- لماذا لا نكتب من أجل أن نعبر , أوليست الحروف بمجملها عبارة عن معانٍ مختلفة , و لكل حرف ثقله على اللسان وعلى العقل وعلى الجنان , نحن نملك في العربية 28 حرفاً , كل واحد منها قد يكون في مزاج ما , فلكل حرف حركته الخاصة باختلاف المواضع التي يكون بها , 28 × 4 = 112 لون نستطيع استخدامه للتأثير على الآخرين , وتلك الألوان نستطيع بها صنع الآلاف من اللوحات الفنية التي تختلف في جودتها , أوليست الكلمات رُسل ؟ , أوليست الجمل معارف ؟ , أوليست المقالات لوحات ؟ , أوليس الأدب تعبير عن الحياة ؟ , نحن نكتب لأننا نعبر , ونعبر لأننا نحيا , والحياة في مجملها مجموعة من المتناقضات المتداخلة , يبدو أننا نحاكي حياة ونرسم لها حياة أخرى في كتاباتنا .
- بالتأكيد نحن نكتب لأن لكل منا عقل يفكر , والتفكير لا يعني أننا نستطيع أن نفعل أو أن نطبق من خلال جوارحنا مانفكر به بنفس الكفاءة التي طرأت على عقولنا , فـ وجب صنع عالم خاص بالعقول له أدواته الخاصة , ثم وجب أن نخلق رُسل بين عقلي وعقلك , حتى و إن لم تحب أفعالي ولم ترَق لك , لك الحرية أن تتجول في عقلي من أي طريق شئت طالما أنت تملك شيء قد كتبته أنا في يوم ما , فلك الحرية في الحكم على عقلي من خلال حروفي , لهذا يجب أن نظهر للآخرين بأجمل حلّه , ليس من أجلهم , بل لأجل أن ننصف عقولنا التي فكرت , الكثير من البشر يملك العقل الذي يؤهله للوصول إلى بعيد و بعيد جداً , إنما يفقد الأداة التي تنقل , لهذا لا بد أن نطور من أدواتنا بأكبر قدر ممكن , فرجل يفكر ويفكر ويفكر ولا ينقل يعني أنه مشلول , مكبّل , مغلوب على أمره , ثم أننا حتى نستوعب المقروء جيداً , لا بد أن نخوض تجربة الكتابة , الكتابة هي الحقل الذي نستطيع منه و به استعراض ما نملك و إحصاء ممتلكاتنا الفكرية , ونقوم بالجرد اللازم , و نعدد ماينقصنا فنسارع في الحصول عليه , هكذا الإنسان يسعى للأفضل دائماً وان اختلفت سبله , ومقاصده .
- هناك بعيداً في أعماقي , أؤمن أنّ لنا قرّاء أوفياء يعرفون كيف يثمنون عقولنا من كتاباتنا , لهذا أنا أكتب لمن يهمه أمري , أكتب ربما ليس لهذا اليوم , ليس لهذه السنة , ليس لهذا الجيل , أكتب ربما لما بعد موتي , أليست الكتابة هي تمرد على الزمن , خروج عن إطار الوقت إلى حرية الأبد , كتاباتي أبدية بينما أنا فاني , حسناً هذا عادل جداً ! .
- أنا أكتب لنفسي , لأني أعرف أنني أتغير مع الوقت , لا بد أن أضع لي بعض فتات الخبز , كي أعود يوماً لمختلف مراحل عمري , ربما لأني رجل أقدّس الذكريات , أقدّر الوفاء , ومن أهم أنواع الوفاء أن تكون وفياً لنفسك , كي تحفظ لها ملامحك الجميلة , والطائشة , اللمّاحة , الانقائية , الفاتنة , وحتى الساذجة .
في بعض الأحيان نختصر الإجابات الطويلة كهذه للآخرين , حفاظاً على أوقاتهم , و منعاً من أن نصيبهم بالملل , ونقول : أنا أكتب لأني أحب الكتابة ! .
عموماً هذه طريقة تنفع للآخرين أما لنفسك احذر منها , يجب أن تتعرى لنفسك , يجب أن تكون عارياً تماماً بجميع الأعضاء المحرجة و القبيحة و الفاتنة و الطويلة و القصيرة , كي يتسنى لك معرفة نقاط قوتك ونقاط ضعفك , أن تحدد ما الأنسب لك منها للوصول لأهدافك .
هذا نموذج للتعري المحمود لسؤال واحد كان يدور في خلدي , كانت تلك إجابتي الشخصية لنفسي , ولكم أن تتصوروا عدد الأسئلة اليومية التي نتساءل عنها , والتي نتجاهلها , وكيف لنا أن نفكر ونتفكر فيها , ونتفرع منها لما هو أهم منها